لبنان 24
العزلة الاجتماعية.. من كورونا إلى الحرب
منذ جائحة التي غزت العالم عام 2020، وجد اللبنانيون أنفسهم محاصرين داخل منازلهم بفعل إجراءات الإقفال والحجر الصحي. كانت العزلة في تلك المرحلة إجبارية، يفرضها الخوف من العدوى والقلق من الموت الصامت خلف جدران المستشفيات. ومع مرور الوقت، تحوّل التباعد الاجتماعي إلى واقع جديد غيّر أنماط العلاقات واللقاءات، وأدخل المجتمع في دوامة من الوحدة والاضطراب النفسي.لكن اللبناني الذي كان يتهيأ للخروج من نفق الوباء والعودة التدريجية إلى حياته الاجتماعية، فوجئ بحرب 2023-2024 التي اجتاحت يومياته وأعادت إنتاج العزلة بشكل أعنف وأكثر قسوة. فبعد الحجر الصحي جاء الحجر الأمني والمعيشي، حيث النزوح القسري، وانقطاع الطرقات، والخوف من القصف، وهاجس فقدان الأمان في أي لحظة. وهكذا انتقل الناس من عزلة مؤقتة سبّبتها جائحة عالمية، إلى عزلة ممتدة فرضتها حرب مدمّرة، عمّقت جراحهم النفسية والاجتماعية والاقتصادية.<strong>من العزلة الصحية إلى عزلة الحرب<br></strong>في زمن كورونا، كان الخوف من يفرض التباعد، وأغلقت المدارس والجامعات، وتوقفت المناسبات والتجمعات. لم يعد هناك أعراس ولا لقاءات عائلية موسّعة، وباتت الشاشات هي الوسيلة الوحيدة للتواصل. ومع انحسار الوباء، ظنّ الناس أن الحياة ستعود إلى طبيعتها، لكن الحرب قلبت الطاولة: نزوح من القرى والمدن، إقفال المؤسسات، انقطاع الكهرباء والاتصالات، وموت يطلّ من السماء في أي لحظة.الدكتور حسن برجي، الطبيب النفسي ومدير مستشفى الشفاء التخصصي، يشرح الفارق بين التجربتين قائلاً: "العزلة النفسية التي سببتها الكورونا كانت بسببين أساسيين: الخوف من الإصابة، والوحدة الناتجة عن عزل المصابين. فصار المجتمع يفضّل الانغلاق على نفسه أو ضمن حلقة ضيقة للوقاية. بينما في الحرب، الموضوع مختلف تماماً: الخوف ينتشر في كل مكان، والشعور بالاستهداف يلاحق الناس حتى ضمن أماكن النزوح. هناك خوف على الممتلكات والبيوت، وعلى الأعزاء والأقارب، إضافة إلى الصدمات النفسية الجماعية والفردية".<strong>انعكاسات نفسية عميقة<br></strong>تكرار العزلة ترك بصماته الثقيلة على الصحة النفسية. فقد أصبح القلق والاكتئاب جزءاً من يوميات كثيرين، فيما يعيش آخرون صدمات متكررة تتجاوز قدرتهم على التحمّل.يقول الدكتور برجي: "اضطرابات القلق هي الأكثر انتشاراً، يليها الاكتئاب، ثم اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، وهذا أمر متوقع نتيجة الأسباب السابقة".الأطفال الذين حُرموا من مقاعد الدراسة واللعب مع أقرانهم، وكبار السن الذين وجدوا أنفسهم محاصرين بالوحدة، إضافة إلى الأشخاص الذين كانوا يعانون من مشاكل نفسية قبل الحرب، كلهم صاروا أكثر عرضة للانهيار. هؤلاء يعيشون عزلة مضاعفة، إذ إن بنيتهم النفسية أكثر هشاشة من غيرهم.<strong>تراجع الروابط الاجتماعية<br></strong>تراجعت المناسبات الاجتماعية بشكل غير مسبوق. الأعراس باتت نادرة، والاحتفالات خجولة، وحتى الأعياد فقدت بريقها. لم تعد العائلة تجتمع كما في السابق، فالخوف المستمر والوضع الاقتصادي الصعب أفرغا اللقاءات من معناها.في المقابل، لجأ كثيرون إلى وسائل التواصل الاجتماعي للتعويض عن الفراغ الإنساني. لكنّ هذه الوسائل لم تنجح في ملء الفجوة، لأنها تفتقد إلى الحميمية والعاطفة التي تميّز اللقاءات الواقعية.الدكتور برجي يوضح أنّ نمط العلاقات العائلية والاجتماعية انقسم إلى نموذجين: الاول شدّ الأواصر والتقارب نتيجة المعاناة المشتركة، حيث شعر الناس بالحاجة إلى الوحدة لمواجهة التحديات. والثاني يتمثل بالانغلاق والاكتفاء بدائرة ضيقة جداً، حفاظاً على الحد الأدنى من الأمان.ويضيف: “رغم وجود النموذجين، فإن الأول كان الغالب في المجتمع اللبناني، إذ إن المحنة دفعت الناس إلى التكاتف أكثر من العزلة الفردية”.<strong>عزلة اقتصادية فوق العزلة النفسية<br></strong>لم تقتصر الأزمة على الصدمات والخوف، بل امتدت إلى الجانب الاقتصادي الذي ضاعف من عزلة الأفراد. فالمشاركة في أي نشاط اجتماعي تحتاج إلى حد أدنى من الإمكانيات المادية، وهو ما لم يعد متاحاً لمعظم اللبنانيين.ارتفاع الأسعار، البطالة، وانهيار العملة جعلت الخروج إلى مطعم أو المشاركة في مناسبة للرفاهية أمر صعب نسبيا. ومع موجات الهجرة المتزايدة، فقد الكثيرون أصدقاءهم وأفراداً من عائلاتهم، ما تركهم أمام فراغ اجتماعي أكبر.العزلة الاجتماعية بعد كورونا والحرب ليست حالة عابرة، بل أزمة ممتدة قد تترك آثارها لسنوات طويلة وربما على أجيال كاملة. إعادة ترميم العلاقات تحتاج إلى وقت وجهد ودعم مؤسساتي، إلى جانب مبادرات أهلية تعيد الثقة وتخلق مساحات آمنة للقاء والتفاعل.اللبنانيون اليوم بحاجة إلى ما هو أبعد من إعادة إعمار المباني والطرقات؛ هم بحاجة إلى إعادة إعمار الروابط الاجتماعية التي تكسّرت تحت ثقل الأزمات. فالمستقبل، رغم قتامة الحاضر، ما زال يستحق أن يُعاش مع الآخرين، لا في عزلة موحشة يفرضها الخوف أو الفقر.
المحتوي مسؤلية المصدر لقراءة الخبر كاملاً اقرأ من المصدر